أخبار متنوعةخبراء و آراء

السعودية تؤسس لاقتصاد جديد .. طاقة نظيفة ومدن ذكية

من الأروقة السياسية الدولية إلى المنتديات الاقتصادية العالمية، ومن تعليقات المحللين في الصحافة ووسائل الإعلام إلى الباحثين في المعاهد الأكاديمية والمؤسسات البحثية، باتت السياسات الاقتصادية السعودية وخطط التنمية والمبادرات الاستباقية الجديدة محل نقاش وبحث.


وككل نقاش يعلو الصخب أحيانا ويغلب منطق العقل أحيانا أخرى، لكن في جميع الحالات تظل التساؤلات قائمة، إلى أي مدى ستحدث “رؤية المملكة” تغييرات جذرية في مسارها ومصيرها الاقتصادي، وإلى أي مدى ستنعكس تلك الرؤية المتجددة على الأوضاع الاقتصادية الراهنة في السعودية والأهم على مستقبلها، وهل تصب جهود الرياض ضمن نهج عالمي يتبلور يوما بعد آخر، أم أنها تصوغ رؤية منفردة، والأهم كيف توازن السعودية برؤيتها المستقبلية بين دور النفط كمحرك اقتصادي لا غنى عنه في اقتصادها والاقتصاد الدولي وبين الخطوات المتسارعة محليا وعلى الساحة الدولية نحو الاعتماد على مشاريع الطاقة النظيفة وحماية البيئة؟
في الواقع يمكنك أن تفهم بسهولة طبيعة كل هذا الجدل والتحليل والتعليقات، بمجرد أن تلتقط صحيفة أو مجلة دولية وتنظر ماذا يكتب عن السعودية و”الرؤية” المعتمدة لحكومتها حتى 2030. فلعقود طويلة لم يكن الحديث الدولي عن الدور السعودي يتجاوز الحديث عن أهميتها في سوق الطاقة العالمية، ودورها الرائد في منظمة أوبك، ولعقود أيضا ظلت السعودية والنفط صنوين لا ينفصلان.


لا تزال المقالات والتحليلات والتعليقات بطبيعة الحال تتناول دور السياسات السعودية وأهميتها في الحفاظ على استقرار أسواق الطاقة العالمية، لكن سعودية اليوم لا تقف عند ذلك الحد، بل باتت بالنسبة إلى عديد من الخبراء والمتخصصين والاقتصاديين والسياسيين رائدة في مجالات لم تكن مألوفة من قبل، ليس فقط في المملكة، بل في عالمها العربي والإسلامي، بل وفي بعض الأحيان على المستوى الدولي، وبفضل رؤية 2030، وجهود المملكة في تعزيز عالم الطاقة النظيفة، ودعم تشييد وبناء المدن الذكية، والحفاظ على البيئة وحمايتها، بفضل هذا كله ينظر إليها في الإعلام الدولي بوصفها قبلة لعصر اقتصادي جديد.


سعودية اليوم وفقا لرؤية المراكز البحثية والإعلامية الدولية تعد رائدة في مجال الحفاظ على البيئة وبناء اقتصاد جديد قائم لأول مرة منذ قرون على توازن العلاقة بين الإنسان وبيئته، بحيث أضحى النمو الاقتصادي لا يتم على حساب البيئة العالمية، بل يضيف إليها.

وهي أيضا إحدى السباقين في مجال المشاريع العملاقة للمدن الذكية، المعتمدة على مزج التكنولوجيا والطاقة النظيفة لوجود حاضنات بشرية حديثة، مع الالتزام بأعلى معايير الجودة العالمية.


كما أنها لم تعد رمزا للنفط وعالمه واقتصاده واستثماراته، بل أصبحت في نظر المحللين والخبراء الغربيين رمزا لنهضة تجعل من صحراء الجزيرة العربية مركز استقطاب عالمي للأبداع والمعرفة الإنسانية، وباتت أيضا نموذجا لكيفية تفاعل الرؤية والامكانات معا لبناء مجتمع جديد قد يكون في بداياته الأولى، لكنها بدايات واعدة بلا شك.
“الاقتصادية” استطلعت آراء ثلة من الخبراء حول الخطط والخطوات والمبادرات التي طرحتها السعودية حول عدد من القضايا الاقتصادية المهمة، سواء في مجال البيئة أو المدن الذكية أو النفط أو الطاقة النظيفة، لمعرفة كيف يرى الخبراء جهود السعودية في جميع تلك المجالات وما تقييمهم لها.

وما لا شك فيه أن ملف الطاقة سواء بجوانبه التقليدية كالنفط والغاز أو بجوانبه المستحدثة مثل الطاقة النظيفة والمتجددة قضية تحتل الآن موقعا رائدا في جدول الأعمال العالمي تجاه المستقبل، والرياض بحكم موقعها الفريد في أسواق الطاقة تتحمل مسؤولية، ذات طابع مميز في هذا السياق.


من جانبه، يقيم البروفيسور جاك سواش أستاذ الاقتصاد الدولي السابق في جامعة كامبردج والخبير في مجال الطاقة النظيفة، رؤية المملكة 2030 ودور النفط فيها وتأثير السياسات السعودية في صناعة الطاقة النظيفة في العالم، بالقول “لفهم الموقف السعودي من قضية الطاقة سواء على المستوى الداخلي أو الدولي، لا يجب أن يقف تحليلنا عند حدود البعد الاقتصادي، على الرغم من أهميته، فلا بد أن نفهم أيضا الرؤية السعودية 2030، التي رغم ارتباطها بقيم التنمية الحديثة، فإنها شديدة الارتباط أيضا بالقيم الأساسية في الثقافة السعودية التي تراعي دائما تفهم تفاصيل الصورة الإجمالية للموقف بأبعاده المختلفة قبل اتخاذ القرار، لتفادي القيام بإرباك المشهد في مجمله دون تحقيق نتائج ذات جدوى”.


وأضاف لـ”الاقتصادية”، “من هذا المنطلق الثقافي يأتي فهمنا للدور السعودي الداعم تماما للطاقة النظيفة والمتجددة، مع الحفاظ أيضا على تبني سياسات نفطية تتلاءم مع حاجة الاقتصاد العالمي، والطلب الضخم والمتواصل من الدول المتقدمة والاقتصادات الناشئة للنفط، لضمان مواصلة نموها الاقتصادي وعدم اضطراب عجلة الإنتاج”.
وأشار إلى أن السعودية تعمل على تلبية الطلب العالمي والتأقلم مع احتياجات المجتمع الدولي من النفط، مع إدراك تام أن هناك تحولا في مسار الاحتياج العالمي لمصادر الطاقة على الأمد الطويل، وأن عليها العمل الدؤوب على تفادي تعريض أسواق النفط التقليدي لهزات عنيفة تؤدي إلى إيقاف مسار الطاقة النظيفة الذي يصب في مصلحة الجميع حاليا.
وتابع جاك سواش الخبير في مجال الطاقة قائلا “على الرغم من أنه يستحيل فصل التوجهات الاقتصادية للسعودية عن مجموعة القيم الثقافية لها، إلا أن البعد الاقتصادي السعودي متعلق بتطوير استراتيجيات واقعية للنفط إلى جانب تطوير استراتيجيات الطاقة النظيفة، دون أن يخل ذلك بميزانيتها العامة من منطلق استخدام تلك العوائد المالية لإتمام عملية التحول الوطني للاعتماد على مزيد من مصادر الطاقة النظيفة، والأكثر استدامة لتعزيز أمن واستقرار السوق المحلية والعالمية في أن واحد”.


تلك الرؤية القائمة على الارتباط بين رؤية المملكة لدور النفط في اقتصادها المحلي، وتكامل تلك الرؤية في الوقت ذاته مع المصلحة العامة العالمية بتوفير النفط بأسعار عادلة للمستهلك والمنتج، تقوم في جوهرها على ضمان عملية تحول تدريجي في أسواق الطاقة العالمية من النفط إلى الطاقة النظيفة دون حدوث أي خلل أو اهتزازات في الأسواق العالمية أو السعودية، لضمان عملية تنمية ذات مسيرة طبيعية خالية من التموجات العنيفة.
من جانبه، عدّ الدكتور كولن نيوصن الخبير في اقتصادات الشرق الأوسط، الرؤية السعودية في مجال الطاقة تترجم على أرض الواقع، في الاتجاه الذي تسير فيه الميزانية منذ أعوام لتحقيق توازن بين العائدات المحققة من النفط والإيرادات المتحصل عليها من الموارد غير النفطية.


وقال لـ”الاقتصادية”، “إن هذا التوجه يدل على مجموعة من النتائج، أولا أن السياسة السعودية في التقليص التدريجي في الاعتماد على النفط تؤتي أكلها، مع حرص شديد على اتباع نهج تدريجي مستقر بحيث يحدث التغير في هيكل الإيرادات السعودية دون أن ينعكس ذلك على الهيكل الاقتصادي ككل، بمعنى أن يكون تراجع إيرادات النفط منسجما مع زيادة العوائد السعودية من المصادر الأخرى، وبمعدلات أكبر للحفاظ على النمو المتواصل في مستوى معيشة المواطن”.


وأضاف أن “ذلك ينسجم أيضا مع “رؤية 2030″ لاستخدام العوائد النفطية في زيادة قدرة الاقتصاد السعودي على الانتقال إلى مجموعة جديدة من البنى الاقتصادية غير التقليدية، التي تعتمد على قيم وأفكار مثل الإبداع والتكنولوجيا والمدن الذكية والحفاظ على البيئة”.


وفي سياق المدن الذكية الصديقة للبيئة، ذكر الدكتور لي ستيوارت أستاذ التنمية العمرانية في جامعة جلاسكو، أن التجربة السعودية فريدة، وفقا لعديد من المعايير.


وأضاف لـ”الاقتصادية” أنه “ربما أبرز ما يجعل من حق السعودية أن تتولى حاليا مسؤولية حمل لواء العمل البشري في مجال المدن الذكية الصديقة للبيئة، الطابع العملي والضخم للجهود السعودية، إذ أخرجت “رؤية 2030″ وجهود ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في هذا المجال، الموضوع من قضية ذات اهتمام أكاديمي أو تطبيقي محدود ذي طابع استعراضي في الدول المتقدمة والاقتصادات النامية أو الناشئة، إلى رؤية ملموسة ومطبقة في الواقع من قبل السعودية، ولتصبح المملكة بذلك ساعية إلى جعل المدن الذكية المحافظة على البيئة واقعا قابلا للتطبيق، ودون أن يترافق ذلك مع حس الخيلاء والغرور الاستعلائي على الآخرين، بل رغبة حقيقية في مشاركة الدروس المستفادة مع شركائها في الإقليم أو على مستوى الحضارة الإنسانية”.


وبالنسبة إلى كثير من الخبراء فإن الرؤية السعودية الراهنة لبناء اقتصاد مستقبلي يتسم بدرجة أعلى من التنوع الاقتصادي، تعتمد في جوهرها على مجموعة من المبادرات الاستباقية التي تستقي جميعها جذورها من رؤية المملكة 2030، ويمثل ذلك كله تحديا اقتصاديا كبيرا، لكن على ضخامة هذا التحدي فإنه يفتح آفاقا غير مسبوقة للاستثمار في مجالات غير تقليدية متعلقة بالتكنولوجيا، وإذ تبني المملكة رؤيتها على الاستثمار في مجالات التكنولوجيا والبيئة بشكل بات ملحوظا على المستوى الدولي، فإن مبادراتها الداخلية التي تخرج من نطاق المحلية إلى العالمية، باتت جاذبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة بشكل ملحوظ.


ما يدفع الدكتور نيكلسون استيلر أستاذ النظم الاستثمارية في جامعة ليدز إلى التأكيد على الطابع التكاملي بين المشاريع السعودية في الطاقة النظيفة والمدن الذكية والبيئة من جهة والاستثمارات الأجنبية من جهة أخرى، بحيث تصبح المشاريع السعودية جاذبة للاستثمارات الأجنبية التي يعاد استثمار أرباحها في مشاريع جديدة تسهم في الحفاظ على الزخم القائم للاقتصاد السعودي.


ويرى الدكتور نيكلسون في حديثه لـ”الاقتصادية” أن هذا يفسر في جزء منه حرص القيادة السعودية على أن تتصف مشاريعها التحديثية بمجموعة من الصفات، أولها الطابع العملاق، بحيث تعكس الضخامة التوجه الكوني لتلك المشاريع مع الحفاظ في الوقت ذاته على الملمح السعودي بشكل بارز في ثناياها، وثانيا التركيز على ارتباط المدن الذكية بالطاقة النظيفة، وسط منظومة بيئية متنوعة ومحافظ عليها، وثالثا التزام جميع تلك المشاريع بلا استثناء بالمعايير العالمية.


وفي هذا السياق، أشار الدكتور نيكلسون إلى أن الطابع الضخم للمشاريع التنموية السعودية التي أعلن عنها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في الأعوام الأخيرة مثل مشروع منطقة نيوم على سبيل المثال ومشروع ذا لاين والرؤية التصميمية لـ”كورال بلوم” لا يقف عند حدود الإبهار على الرغم مما يتضمنه الإبهار من مشروعية، باعتبار تلك المشاريع رائدة في مجالها الهندسي.


واستدرك أن “القيادة السعودية وخلفها المجتمع الدولي يعد جميع تلك المشاريع بوابة لمرحلة اقتصادية جديدة ليست فقط للسعودية، إنما تدخل ضمن الجهود العالمية لوضع حجر الأساس لبناء اقتصادي جديد، فتلك المشاريع العملاقة وبوصفها بوابة ذات طابع استثنائي من حيث الفكرة والجهد الإبداعي تمثل نقطة البدء لنهج من التطوير المتجدد.
وهذا ما ينقل المشهد إلى المرحلة الثانية بالتركيز على المدن الذكية والطاقة النظيفة باعتبارهما الأعمدة التي ستشيد عليها هياكل اقتصاد ملموس، يمكن للمواطنين التعرف عليه والتفاعل والتعايش معه بشكل يومي، باعتباره مكانا للعيش والحياة، ويتطلب هذا الحفاظ على فكرة التنوع البيولوجي باعتبارها أحد أسس الحفاظ على البيئة لتحقيق التكامل المنشود في علاقة متوازنة للتنمية الاقتصادية بين الإنسان والبيئة، ولذلك يلاحظ أنه في جميع مشاريع السعودية كان هناك حرص دائم على أن تتناغم وتتجانس البنية التحتية مع التشكيلات البيئية القائمة، ونظرا لإدراك رؤية 2030 لأهمية الانسجام مع المجتمع الدولي في حركته الاقتصادية عبر التكامل معها بما يحقق مصالح المملكة، فإن قضية المعايير تعد عاملا حاسما في عملية التنمية السعودية”.


ويرى بعض الخبراء أن الحديث السعودي الدائم حول الالتزام بالمعايير العالمية لا يقف عند حدود الشكل الهندسي أو تحسين المظهر الخارجي، على الرغم من أهميته، إنما تدرك القيادة السعودية – كما تشير كارمن كريس الباحثة الاقتصادية – أن جوهر العملية التنموية في المملكة منبعه الإنسان وإلى الإنسان، وبذلك تصبح البيئة جسرا للربط بين حسن استخدام الموارد ورفاهية الإنسان السعودي.


ويتجلى هذا من وجهة نظرها في سعي الرياض لنقل مواطنيها إلى مستوى أعلى من الرفاهية، عبر نقل اقتصادها من مرحلة الاعتماد المطلق على النفط إلى الاعتماد المتزايد على الموارد غير النفطية، لتضمن بذلك تأهيل المواطن السعودي بشكل عملي إلى مرحلة جديدة من تاريخ السعودية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى